سورة طه - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)}
اعلم أن في قوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} دلالة على أنه قد تقدم قومه في المسير إلى المكان ويجب أن يكون المراد ما نبه عليه في قوله تعالى: {وواعدناكم جَانِبَ الطور الأيمن} [طه: 80] في هذه السورة، وفي سائر السور كقوله: {وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً} [الأعراف: 142] يريد الميقات عند الطور وعلى الآية سؤالات:
السؤال الأول: قوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ} استفهام وهو على الله محال. الجواب أنه إنكار في صيغة الاستفهام ولا امتناع فيه.
السؤال الثاني: أن موسى عليه السلام لا يخلو إما أن يقال إنه كان ممنوعاً عن ذلك التقدم أو لم يكن ممنوعاً عنه، فإن كان ممنوعاً كان ذلك التقدم معصية فيلزم وقوع المعصية من الأنبياء، وإن قلنا إنه ما كان ممنوعاً كان ذلك الإنكار غير جائز من الله تعالى.
والجواب: لعله عليه السلام ما وجد نصاً في ذلك إلا أنه باجتهاده تقدم فأخطأ في ذلك الاجتهاد فاستوجب العتاب.
السؤال الثالث: قال: {وَعَجِلْتُ} والعجلة مذمومة.
والجواب: إنها ممدوحة في الدين.
قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133].
السؤال الرابع: قوله: {لترضى} يدل على أنه عليه السلام إنما فعل ذلك لتحصيل الرضا لله تعالى وذلك باطل من وجهين. أحدهما: أنه يلزم تجدد صفة الله تعالى، والآخر أنه تعالى قبل حصول ذلك الرضا وجب أن يقال: إنه تعالى ما كان راضياً عن موسى لأن تحصيل الحاصل محال، ولما لم يكن راضياً عنه وجب أن يكون ساخطاً عليه، وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام.
الجواب: المراد تحصيل دوام الرضا كما أن قوله: {ثُمَّ اهتدى} المراد دوام الاهتداء.
السؤال الخامس: قوله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ} يدل على أنه ذهب إلى الميعاد قبل الوقت الذي عينه الله تعالى له، وإلا لم يكن ذلك تعجيلاً ثم ظن أن مخالفة أمر الله تعالى سبب لتحصيل رضاه وذلك لا يليق بأجهل الناس فضلاً عن كليم الله تعالى.
والجواب: ما ذكرنا أن ذلك كان بالاجتهاد وأخطأ فيه.
السؤال السادس: قوله: {إِلَيْكَ} يقتضي كون الله في الجهة لأن إلى لانتهاء الغاية.
الجواب: توافقنا على أن الله تعالى لم يكن في الجبل فالمراد إلى مكان وعدك.
السؤال السابع: {مَا أَعْجَلَكَ} سؤال عن سبب العجلة فكان جوابه اللائق به أن يقول: طلبت زيادة رضاك والشوق إلى كلامك، وأما قوله: {هُمْ أُوْلاءِ على أَثَرِى} فغير منطبق عليه كما ترى والجواب من وجهين:
الأول: أن سؤال الله تعالى يتضمن شيئين: أحدهما: إنكار نفس العجلة.
والثاني: السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين عند موسى عليه السلام بالجواب هذا الثاني فقال: لم يوجد مني إلا تقدم يسير لا يحتفل به في العادة وليس بيني وبين من سبقته إلا تقدم يسير يتقدم بمثله الوفد عن قومهم ثم عقبه بجواب السؤال عن العجلة فقال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى}.
الثاني: أنه عليه السلام لما ورد عليه من هيبة عتاب الله تعالى ما ورد ذهل عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام، واعلم أن في قوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} دلالة على أنه تعالى أمره بحضور الميقات مع قوم مخصوصين، واختلفوا في المراد بالقوم فقال بعضهم: هم النقباء السبعون الذين قد اختارهم الله تعالى ليخرجوا معه إلى الطور فتقدمهم موسى عليه السلام شوقاً إلى ربه.
وقال آخرون: القوم جملة بني إسرائيل وهم الذين خلفهم موسى مع هارون وأمره أن يقيم فيهم خليفة له إلى أن يرجع هو مع السبعين فقال: {هُمْ أُوْلاءِ على أَثَرِى} يعني بالقرب مني ينتظرونني، وعن أبي عمرو ويعقوب إثري بالكسر وعن عيسى بن عمر أثري بالضم، وعنه أيضاً أولى بالقصر، والأثر أفصح من الإثر.
وأما الأثر فمسموع في فرند السيف وهو بمعنى الأثر غريب.


{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)}
اعلم أنه تعالى لما قال لموسى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ} [طه: 83] وقال موسى في جوابه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى} [طه: 84] عرفه الله تعالى ما حدث من القوم بعد أن فارقهم مما كان يبعد أن يحدث لو كان معهم فقال: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامرى} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى خلق فيهم الكفر لوجهين، الوجه الأول: الدلائل العقلية الدالة على أنه لا يجوز من الله أن يفعل ذلك.
الثاني: أنه قال: {وَأَضَلَّهُمُ السامرى} ولو كان الله خلق الضلال فيهم لم يكن لفعل السامري فيه أثر وكان يبطل قوله: {وَأَضَلَّهُمُ السامرى} وأيضاً فلأن موسى عليه السلام لما طالبهم بذكر سبب تلك الفتنة قال: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ} فلو حصل ذلك بخلق الله تعالى لكان لهم أن يقولوا السبب فيه أن الله خلقه فينا لا ما ذكرت فكان يبطل تقسيم موسى عليه السلام وأيضاً فقال: {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ} ولو كان ذلك بخلقه لاستحال أن يغضب عليهم فيما هو الخالق له ولما بطل ذلك وجب أن يكون لقوله: {فَتَنَّا} معنى آخر وذلك لأن الفتنة قد تكون بمعنى الامتحان. يقال: فتنت الذهب بالنار إذا امتحنته بالنار لكي يتميز الجيد من الرديء فهاهنا شدد الله التكليف عليهم وذلك لأن السامري لما أخرج لهم ذلك العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة العالم والأجسام على أن لها إلهاً ليس بجسم وحينئذ يعرفون أن العجل لا يصلح للإلهية فكان هذا التعبد تشديداً في التكليف فكان فتنة والتشديد في التكليف موجود قال تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] هذا تمام كلام المعتزلة قال الأصحاب: ليس في ظهور صوت عن عجل متخذ من الذهب شبهة أعظم مما في الشمس والقمر والدليل الذي ينفي كون الشمس والقمر إلهاً أولى بأن ينفي كون ذلك العجل إلهاً فحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديداً في التكليف فلا يصح حمل الآية عليه فوجب حمله على خلق الضلال فيهم، قولهم: أضاف الإضلال إلى السامري قلنا: أليس أن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن كان الموجد لها هو الله تعالى فكذا هاهنا وأيضاً قرئ وأضلهم السامري أي وأشدهم ضلالاً السامري وعلى هذا لا يبقى للمعتزلة الاستدلال، ثم الذي يحسم مادة الشغب التمسك بفصل الداعي على ما سبق تقريره في هذا الكتاب مراراً كثيرة.
المسألة الثانية: المراد بالقوم هاهنا هم الذين خلفهم مع هارون عليه السلام على ساحل البحر وكانوا ستمائة ألف افتتنوا بالعجل غير أثني عشر ألفاً.
المسألة الثالثة: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية سعيد بن جبير: كان السامري علجاً من أهل كرمان وقع إلى مصر وكان من قوم يعبدون البقر والذي عليه الأكثرون أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة، قال الزجاج وقال عطاء عن ابن عباس: بل كان رجلاً من القبط جاراً لموسى عليه السلام وقد آمن به.
المسألة الرابعة: روى في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا: قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك والتوفيق بين هذا وبين قوله لموسى عند مقدمه: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} من وجهين:
الأول: أنه تعالى أخبر عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته.
الثاني: أن السامري شرع في تدبير الأمر لما غاب موسى عليه السلام وعزم على إضلالهم حال مفارقة موسى عليه السلام وكأنه قدر الفتنة موجودة.
المسألة الخامسة: إنما رجع موسى عليه السلام بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة.
المسألة السادسة: ذكروا في الأسف وجوهاً:
أحدها: أنه شدة الغضب وعلى هذا التقدير لا يلزم التكرار لأن قوله: غضبان يفيد أصل الغضب وقوله: أسفاً يفيد كماله.
وثانيها: قال الأكثرون حزناً وجزعاً يقال أسف يأسف أسفاً إذا حزن فهو آسف.
وثالثها: قال قوم: الآسف المغتاظ وفرقوا بين الاغتياظ والغضب بأن الله تعالى لا يوصف بالغيظ ويوصف بالغضب من حيث كان الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه والغيظ تغير يلحق المغتاظ وذلك لا يصح إلا على الأجسام كالضحك والبكاء ثم إن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه عاتبهم بعد رجوعه إليهم قالت المعتزلة: وهذا يدل على أنه ليس المراد من قوله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} أنه تعالى خلق الكفر فيهم وإلا لما عاتبهم بل يجب أن يعاتب الله تعالى قال الأصحاب: وقد فعل ذلك بقوله: {إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] ومجموع تلك المعاتبات أمور.
أحدها: قوله: {ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} وفيه سؤالان:
السؤال الأول: قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} هذا الكلام إنما يتوجه عليهم لو كانوا معترفين بإله آخر سوى العجل أما لما اعتقدوا أنه لا إله سواه على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا هذا إلهكم وإله موسى كيف يتوجه عليهم هذا الكلام.
الجواب: أنهم كانوا معترفين بالإله لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام.
السؤال الثاني: ما المراد بذلك الوعد الحسن.
الجواب: ذكروا وجوهاً:
أحدها: أن المراد ما وعدهم من إنزال التوراة عليهم ليقفوا على الشرائع والأحكام ويحصل لهم بسبب ذلك مزية فيما بين الناس وهو الذي ذكره الله تعالى فيما تقدم من قوله: {وواعدناكم جَانِبَ الطور الأيمن} [طه: 80].
وثانيها: أن الوعد الحسن هو الوعد الصدق بالثواب على الطاعات.
وثالثها: الوعد هو العهد وهو قول مجاهد وذلك العهد هو قوله تعالى: {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى} [طه: 81] إلى قوله: {ثُمَّ اهتدى} [طه: 82] والدليل عليه قوله بعد ذلك: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ} فكأنه قال: أفنسيتم ذلك الذي قال الله لكم ولا تطغوا فيه.
ورابعها: الوعد الحسن هاهنا يحتمل أن يكون وعداً حسناً في منافع الدين وأن يكون في منافع الدنيا، أما منافع الدين فهو الوعد بإنزال الكتاب الشريف الهادي إلى الشرائع والأحكام والوعد بحصول الثواب العظيم في الآخرة.
وأما منافع الدنيا فهو أنه تعالى قبل إهلاك فرعون كان قد وعدهم أرضهم وديارهم، وقد فعل ذلك ثم قال: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ} فالمراد أفنسيتم ذلك العهد أم تعمدتم المعصية، واعلم أن طول العهد يحتمل أموراً: أحدها: أفطال عليكم العهد بنعم الله تعالى من إنجائه إياكم من فرعون وغير ذلك من النعم المعدودة المذكورة في أوائل سورة البقرة وهذا كقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16].
وثانيها: يروى أنهم عرفوا أن الأجل أربعون ليلة فجعلوا كل يوم بأزاء ليلة وردوه إلى عشرين.
قال القاضي: هذا ركيك لأن ذلك لا يكاد يشتبه على أحد.
وثالثها: أن موسى عليه السلام وعدهم ثلاثين ليلة فلما زاد الله تعالى فيها عشرة أخرى كان ذلك طول العهد، وأما قوله: {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ} فهذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحداً لا يريد ذلك ولكن المعصية لما كانت توجب ذلك، ومريد السبب مريد للمسبب بالعرض صح هذا الكلام واحتج العلماء بذلك على أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام.
أما قوله: {فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى} فهذا يدل على موعد كان منه عليه السلام مع القوم وفيه وجهان:
أحدهما: أن المراد ما وعدوه من اللحاق به والمجيء على أثره.
والثاني: ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور، فعند هذا قالوا: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} وفي أن قائل هذا الجواب من هو وجهان:
الأول: أنهم الذين لم يعبدوا العجل فكأنهم قالوا: إنا ما أخلفنا موعدك بملكنا أي بأمر كنا نملكه وقد يضيف الرجل فعل قريبه إلى نفسه كقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50]، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة: 72] وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم فكأنهم قالوا: الشبهة قويت على عبدة العجل فلم نقدر على منعهم عنه ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سبباً لوقوع التفرقة وزيادة الفتنة.
الوجه الثاني: أن هذا قول عبدة العجل والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا وفاعل السبب فاعل المسبب ومخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة فإنه كان كالمالك لنا.
فإن قيل: كيف يعقل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة العجل الذي يعرف فسادها بالضرورة، ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك الدين بسبب رجوع موسى عليه السلام وحده إليهم، قلنا: هذا غير ممتنع في حق البله من الناس، واعلم أن في بملكنا ثلاث قراءات، قرأ حمزة والكسائي بضم الميم ونافع وعاصم بفتح الميم وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر، أما الكسر والفتح فهما واحد وهما لغتان مثل رطل ورطل.
وأما الضم فهو السلطان، ثم إن القوم فسروا ذلك العذر المجمل فقالوا: {ولكنا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم} قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر حملنا مخففة من الحمل وقرأ ابن كثير ونافع وحفص وابن عامر: حملنا مشددة، فمن قرأ بالتخفيف فمعناه حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من القوم ومن قرأ بالتشديد ففيه وجوه:
أحدها: أن موسى عليه السلام حملهم على ذلك أي أمرهم باستعارة الحلي والخروج بها فكأنه ألزمهم ذلك.
وثانيها: جعلنا كالضامن لها إلى أن نؤديها إلى حيث يأمرنا الله.
وثالثها: أن الله تعالى حملهم ذلك على معنى أنه ألزمهم فيه حكم المغنم، أما الأوزار فهي الأثقال ومن ذلك سمي الذنب وزراً لأنه ثقل ثم فيه احتمالات.
أحدها: أنه لكثرتها كانت أثقالاً.
وثانيها: أن المغانم كانت محرمة عليهم فكان يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أثقالاً.
وثالثها: المراد بالأوزار الآثام والمعنى حملنا آثاماً، روي في الخبر أن هارون عليه السلام قال: إنها نجسة فتطهروا منها، وقال السامري: إن موسى عليه السلام إنما احتبس عقوبة بالحلي فيجوز أن يكونوا أرادوا هذا القول. وقد يقول الإنسان للشيء الذي يلزمه رده هذا كله إثم وذنب.
ورابعها: أن ذلك الحلي كان القبط يتزينون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر لا جرم أنها وصفت بكونها أوزاراً كما يقال مثله في آلات المعاصي.
أما قوله: {فَقَذَفْنَاهَا} فذكروا فيه وجوهاً في أنهم أين قذفوها؟ الوجه الأول: قذفوها في حفرة كان هارون عليه السلام أمرهم بجمع الحلي فيها انتظاراً لعود موسى عليه السلام. والوجه الثاني: قذفوها في موضع أمرهم السامري بذلك.
الوجه الثالث: في موضع جمع فيه النار ثم قالوا: فكذلك ألقى السامري أي فعل السامري مثل ما فعلنا، أما قوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} فاختلفوا في أنه هل كان ذلك الجسد حياً أم لا؟ فالقول الأول: لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد الضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيها منافذ ومخارق بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل.
والقول الثاني: أنه صار حياً وخار كما يخور العجل واحتجوا عليه بوجوه:
أحدها: قوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} [طه: 96] ولو لم يصر حياً لما بقي لهذا الكلام فائدة.
وثانيها: أنه تعالى سماه عجلاً والعجل حقيقة في الحيوان وسماه جسداً وهو إنما يتناول الحي.
وثالثها: أثبت له الخوار وأجابوا عن حجة الأولين بأن ظهور خوارق العادة على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الإلتباس وهاهنا كذلك فوجب أن لا يمتنع، وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون عليه السلام مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي فقال: اللهم أعطه ما سأل فلما مضى هارون قال السامري: اللهم إني أسألك أن يخور فخار وعلى هذا التقدير يكون ذلك معجزاً للنبي، أما قوله: {فَقَالُواْ هذا إلهكم وإله موسى} ففيه إشكال وهو أن القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض فهم مجانين وليسوا بمكلفين ولأن مثل هذا الجنون على مثل ذلك الجمع العظيم محال وإن لم يعتقدوا ذلك فكيف قالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وجوابه: لعلهم كانوا من الحلولية فجوزوا حلول الإله أو حلول صفة من صفاته في ذلك الجسم، وإن كان ذلك أيضاً في غاية البعد لأن ظهور الخوار لا يناسب الإلهية، ولكن لعل القوم كانوا في نهاية البلادة والجلافة، وأما قوله: فنسي ففيه وجوه:
الأول: أنه كلام الله تعالى كأنه أخبر عن السامري أنه نسي الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لايحل في شيء ولا يحل فيه شيء ثم إنه سبحانه بين المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله: {أَفَلاَ يَرَوْنَ ألا يَرجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً ولا نفعاً} أي لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع لا يكون إلهاً ولا يكون للإله تعلق به في الحالية والمحلية.
الوجه الثاني: أن هذا قول السامري وصف به موسى عليه السلام والمعنى أن هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى أن هذا هو الإله فذهب يطلبه في موضع آخر وهو قول الأكثرين.
الوجه الثالث: فنسي وقت الموعد في الرجوع أما قوله: {أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} فهذا استدلال على عدم إلهيتها بأنها لا تتكلم ولا تنفع ولا تضر وهذا يدل على أن الإله لابد وأن يكون موصوفاً بهذه الصفات وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمر لا يعول إلا على دلائل إبراهيم عليه السلام بقي هاهنا بحثان.
البحث الأول: قال الزجاج: الاختيار أن لا يرجع بالرفع بمعنى أنه لا يرجع وهذا كقوله: {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} [المائدة: 71] بمعنى أنه لا تكون وقرئ بالنصب أيضاً على أن أن هذه هي الناصبة للأفعال.
البحث الثاني: هذه الآية تدل على وجوب النظر في معرفة الله تعالى وقال في آية أخرى: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [الأعراف: 148] وهو قريب في المعنى من قوله في ذم عبدة الأصنام: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط، ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط.
الثالث: قال بعض اليهود لعلي عليه السلام: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم؟ فقال: إنما اختلفنا عنه وما اختلفنا فيه، وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؟


{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)}
اعلم أن هارون عليه السلام إنما قال ذلك شفقة منه على نفسه وعلى الخلق أما شفقته على نفسه فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان مأموراً من عند أخيه موسى عليه السلام بقوله: {اخلفنى فِي قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى ولأمر موسى عليه السلام وذلك لا يجوز، أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فقال: إنهم لم يغضبوا لغضبي.
وقال ثابت البناني قال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح وهمه غير الله تعالى فليس من الله في شيء ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم».
وعن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في تواددهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» وقال أبو علي الحسن الغوري: كنت في بعض المواضع فرأيت زورقاً فيها دنان مكتوب عليها لطيف فقلت للملاح: إيش هذا فقال: أنت صوفي فضولي وهذه خمور المعتضد، فقلت له: أعطني ذلك المدرى، فقال لغلامه: اعطه حتى نبصر إيش يعمل، فأخذت المدرى وصعدت الزورق فكنت أكسر دنا دنا والملاح يصيح حتى بقي واحد فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني وحملني إلى المعتضد وكان سيفه قبل كلامه فلما وقع بصره علي قال من أنت؟ قلت المحتسب، قال من ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الخلافة. قال: لم كسرت هذه الدنان؟ قلت شفقة عليك إذا لم تصل يدي إلى دفع مكروه عنك. قال: فلم أبقيت هذا الواحد قلت إني لما كسرت هذه الدنان فإني إنما كسرتها حمية في دين الله فلما وصلت إلى هذا أعجبت فأمسكت ولو بقيت كما كنت لكسرته، فقال: اخرج يا شيخ فقد وليتك الحسبة، فقلت كنت أفعله لله تعالى فلا أحب أن أكون شرطياً.
وأما الشفقة على المسلمين فلأن الإنسان يجب أن يكون رقيق القلب مشفقاً على أبناء جنسه وأي شفقة أعظم من أن يرى جمعاً يتهافتون على النار فيمنعهم منها، وعن أبي سعيد الخدري عنه عليه السلام: «يقول الله تعالى اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها في القاسية قلوبهم فإن فيهم غضبي»، وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر وعمر معه فجاء صغير فبكى فقال لعمر: ضم الصبي إليك فإنه ضال فأخذه عمر فإذا امرأة تولول كاشفة رأسها جزعاً على ابنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدرك المرأة» فناداها فجاءت فأخذت ولدها وجعلت تبكي والصبي في حجرها فالتفتت فرأت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت فقال عليه السلام عند ذلك: «أترون هذه رحيمة بولدها؟» قالوا: يا رسول الله كفى بهذه رحمة فقال: «والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها» ويروى: أنه بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا» فسمع الشاب ذلك فولى، فقال: إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد علي بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشعل النار بي حتى تبر يمينه ولا تشعل النار بأحد آخر، فهبط جبريل عليه السلام وقال: يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفدائه أمتك بنفسه وشفقته على الخلق.
إذا ثبت ذلك فاعلم أن الأمر بالمعروف والشفقة على المسلمين واجب. ثم إن هارون عليه السلام رأى القوم متهافتين على النار ولم يبال بكثرتهم ولا بقوتهم بل صرح بالحق فقال: {ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} الآية وهاهنا دقيقة وهي أن الرافضة تمسكوا بقوله عليه السلام لعلي: «أنت مني بمنزلة هرون من موسى» ثم إن هرون ما منعته التقية في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة نفسه والمنع من متابعة غيره، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على علي عليه السلام أن يفعل ما فعله هارون عليه السلام وأن يصعد على المنبر من غير تقية وخوف وأن يقول: {فاتبعونى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى} فلما لم يفعل ذلك علمنا أن الأمة كانوا على الصواب، واعلم أن هرون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله: {إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانياً بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن} ثم دعاها ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله: {فاتبعونى} ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله: {وَأَطِيعُواْ أَمْرِى} وهذا هو الترتيب الجيد لأنه لابد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ثم معرفة الله تعالى هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه، وإنما قال: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن} فخص هذا الموضع باسم الرحمن لأنه كان ينبئهم بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم، ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون ثم إنهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال بالتقليد والجحود فقالوا: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} كأنهم قالوا: لا نقبل حجتك ولكن نقبل قول موسى وعادة المقلد ليس إلا ذاك.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10